سورة يوسف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{يُوسُفَ} حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله {أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي عن هذا الأمرِ وعن التحديث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك {واستغفرى} أنت يا هذه {لِذَنبِكِ} الذي صدر عنك وثبَتَ عليك {إِنَّكَ كُنتَ} بسبب ذلك {مِنَ الخاطئين} من جملة القوم المتعمّدين للذنب أو من جنسهم، يقال: خطِىء إذا أذنب عمداً، وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار، والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها، وقيل: كان قليلَ الغَيرة.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ} أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً: امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب، والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال، ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث {فِى المدينة} ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} أي الملك، يُرِدْن قطفير، وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل، إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن: {تُرَاوِدُ فتاها} أي تطالبه بمواقعته لها وتتحمل في ذلك وتخادعه {عَن نَّفْسِهِ} وقيل: تطلب منه الفاحشة، وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم: فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهو المراد هاهنا وفي الحديث: «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي»، وتعبيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانة ما بينهما من التبايُن البيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية، وكلُّ ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب، وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج، عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره لا سيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بينها وبينه أصلاً وتماديها في ذلك غايةُ الغي ونهايةُ الضلال.
{قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها، وقرئ {شعَفها} بالعين من شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران. وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك، وكان الشعبي يقول: الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حال من فاعل تُراود أو من مفعوله، وأياً ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية، وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى، ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام، وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه {إِنَّا لَنَرَاهَا} أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً {فِى ضلال} عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل {مُّبِينٌ} واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس، فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه.


{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن وسوءِ قالتِهن وقولِهن: امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها، وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر، وإن كان ظاهراً لغيرها. وقيل: استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها، وقيل: إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات {وَأَعْتَدَت} أي أحضرت وهيأت {لَهُنَّ} أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، أو رتّبت لهن مجلسَ شرابٍ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترَفين، ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً. وقيل: متّكأ طعاماً من قولهم: تكأنا عند فلان أي طعِمنا، قال جميل:
فظلِلْنا بنعمةٍ واتكأنا *** وشرِبْنا الحلالَ من قُلَلِهْ
وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً، كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين، وقرئ بغير همز وقرئ بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبَع وقرئ {مُتُكاً} وهو الأُترُجّ وأنشدوا:
وأهدت مُتْكةً لبني أبيها *** تخُب بها العَثَمْثمَةُ الوَقاحُ
أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه إذا تكى {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن {وَقَالَتِ} ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها، والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها: {اخرج عَلَيْهِنَّ} أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه وإنما حذف تحقيقاً لمفاجأة رؤيتِهن كأنها تفوت عند ذكرِ خروجِه عليهن كما حُذف لتحقيق السُّرعةِ في قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} بعد قوله: {قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ} وفيه إيذانٌ بسرعة امتثالِه عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرَّتَه من الأفاعيل {أَكْبَرْنَهُ} عظّمنه وهِبْن حسنَه الفائقَ وجماله الرائعَ الرائقَ فإن فضلَ جمالِه على جمال كلِّ جميلٍ كان كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيتُ يوسفَ ليلةَ المعراج كالقمر ليلةَ البدر» وقيل: كان يُرى تلألؤُ وجهِه على الجُدران كما يُرى نورُ الشمس على الماء، وقيل: معنى أكبرْنَ حِضْن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضْن له من شدة الشبَق كما قال المتنبي:
خفِ الله واستُر ذا الجمالَ ببرقع *** فإن لُحْتَ حاضتْ في الخدور العواتقُ
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرَحْنها بما في أيديهن من السكاكين لفرْط دهشتِهن وخروجِ حركات جوارحِهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعُرْن به {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له سبحانه عن صفات النقصِ والعجزِ وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنعِ البديعِ، وأصلُه {حاشا} كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحُذفت ألفُه الأخيرةُ تخفيفاً وهو حرفُ جر يفيد معنى التنزيهِ في باب الاستثناء فلا يُستثنى به إلا ما يكون موجباً للتنزيه فوضع موضعَه، فمعنى {حاشا الله} تنزيهُ الله وبراءةُ الله وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، واللام لبيان المنزَّه والمبرَّأ عز وجل كما في سُقياً لك، والدليلُ على وضعه موضعَ المصدر قراءةُ أبي السمال {حاشاً} بالتنوين وقراءةُ أبي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقرأةُ الأعمش بحذف الأولى فإن التصرّفَ من خصائص الاسمِ فيدل على تنزيله منزلتَه، وعدمُ التنوين لمراعاة أصلِه كما في قولك: جلست مِنْ عن يمينه.
وقولُه: غدت مِنْ عليه منقلبُ الألف إلى الياء مع الضمير وقرئ {حاش لله} بسكون الشين إتباعاً للفتحة الألفَ في الإسقاط و{حاش الإله}، وقيل: حاشا فاعلٌ من الحشا الذي هو الناحية وفاعلُه ضميرُ يوسف أي صار في ناحية من أن يقارف ما رمتْه به لله أي لطاعته أو لمكانه أو جانبَ المعصية لأجل الله {مَا هذا بَشَرًا} على إعمال ما بمعنى ليس وهي لغةُ أهلِ الحجازِ لمشاركتهما في نفي الحالِ وقرئ {بشرٌ} على لغة تميم وبِشِرًى أي بعبد مشترى لئيم، نفَين عنه البَشَرية لما شاهدْن فيه من الجمال العبقري الذي لم يُعهدْ مثالُه في البشر وقصَرْنه على الملَكية بقولهن: {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} بناءً على ما ركَز في العقول مِنْ ألاّ حيَّ أحسنُ من الملك كما ركب فيها أن لا أقبحُ من الشيطان ولذلك لا يزال يُشبَّه بهما كلُّ متناهٍ في الحسن والقبح وغرضُهن وصفُه بأقصى مراتبِ الحسن والجمال.


{قَالَتْ فذلكن} الفاء فصيحةٌ والخطابُ للنسوة والإشارةُ إلى يوسف بالعنوان الذي وصفْنه به الآن من الخروج في الحسن والجمالِ عن المراتب البشريةِ والانتصار على الملَكية، فاسمُ الإشارة مبتدأٌ والموصولُ خبرُه والمعنى إن كان الأمرُ قلتنّ فذلكنّ الملكُ الكريمُ النائي عن المراتب البشريةِ هو {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيَّرْتُنّني في الافتتان به حيث رَبَأْتُن بمحلِّي بنسبتي إلى العزيز ووضعتُنَّ قدرَه بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفْنه به فيما سبق بقولهن: امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكَنعاني فهو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي فهو ذلك العبدُ الكنعانيُّ الذي صورتُنّ في أنفسكن وقلتنّ فيه وفيَّ ما قلتن فالآن قد علمتُنّ من هو وما قولُكن فينا، وأما ما يقال تعني أنكن لم تصوِّرْنه بحقِّ صورتِه ولو صوّرتُنّه بما عاينتُنّ لعذرتُنّني في الافتتان به فلا يلائمُ المقام فإن مرادَها بدعوتهن وتمهيدِ ما مهَّدَتْه لهن تبكيتُهن وتنديمُهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلك بما لا مزيدَ عليه، وما ذكر من المقال فحقُّ المعتذر قبل ظهور معذرتِه وقد قيل في تعليل الملَكية: أن الجمعَ بين الجمال الرائقِ والكمال الفائق والعصمةِ البالغةِ من الخواصِّ الملكية وهو أيضاً لا يلائم قولها: {فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} فإن عنوانَ العصمةِ مما ينافي تمشيةَ مرامِها ثم بعدما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرَها وقد أصابهن من قِبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرِّها فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} حسبما قلتنّ وسمعتن {فاستعصم} امتنع طالباً للعصمة وهو بناءُ مبالغةٍ يدل على الامتناع البليغِ والتحفّظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها كما في استمسك واستجمع الرأيَ وفيه برهانٌ نيِّر على أنه لم يصدُر عنه عليه السلام شيء مُخِلٌّ باستعصامه بقوله: معاذ الله من الهمّ وغيرِه. اعترفت لهن أولاً بما كن يسمعنْه من مراودتها له وأكدتْه إظهاراً لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يَمِلْ إليها قط ثم زادت عليه أيضاً أنها مستمرةٌ على ما كانت عليه غير مرغوبة عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ} أي آمرُ به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحُذف الجارُّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير كما في أمرتك الخيرَ فالضميرُ للموصول أو أمري إياه أي موجبَ أمري ومقتضاه، فما مصدرية والضميرُ ليوسف وعبّرت عن مراودتها بالأمر إظهاراً لجريان حكومتِها عليه واقتضاءً للامتثال بأمرها {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون المثقلة آثرت بناءَ الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوكِ أو إيهاماً لسرعة ترتبِ ذلك على عدم امتثالِه لأمرها كأنه لا يدخُل بينهما فعلُ فاعل {وَلَيَكُونًا} بالمخففة {مِنَ الصاغرين} أي الأذلاء في السجن وقد قرئ الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورةَ أولى لأن النونَ كُتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، واللامُ الداخلة على حرف الشرطِ موطئةٌ للقسم وجوابُه سادٌّ مسدَّ الجوابين ولقد أتتْ بهذا الوعيدِ المنطوي على فنون التأكيدِ بمحضر منهن ليعلم يوسفُ عليه السلام أنها ليست في أمرها على خُفية ولا خفية من أحد فتضيقَ عليه الحيلُ وتعيا به العللُ وينصحن له ويُرشِدْنه إلى موافقتها. ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول: فما صنع يوسفُ حينئذ؟ قيل:

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10